بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في قرآنية قصة موسى و الرجل الصالح - مشاهد
قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح ( و يقال أنه سيدنا الخضر ، و الله أعلم ) ، من أحسن القصص القرآنية التي يرويها الله لرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قرآنه المنزل عليه ؛ لنتعلم منها إدراك هيمنة الخالق القدير على كل شئ في عالم الحركة الفعلية في ظاهرها ( الطبيعي ) ، و باطنها ( الغيبي ) .
جدلية الغيب و الطبيعة و الإنسان:
من تمام إيمان ( الإنسان ) المسلم ، إيمانه ( بالغيب ) : { الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون}
( البقرة : الآية ٣ )
إلا أن جدل ( الطبيعة) بماديته المرتدة إلى منهجية البحث العلمي ( عند البعض) ينكر جدل الغيب ، و يذهب بعيداً إلى إنكار وجود الله بحسبانه غيباً غير منظور ، ( في زعمهم المادي الإلحادي ) .
إذن كيف يتحول الغيب إلى حقيقة واقعة في حياة الإنسان .. ؟؛ تلك هي قصة موسى و العبد الصالح ، التي إختار فيها الله جلت قدرته أن يكون نبيه موسى في تجربة محدودة ليكشف له و لنا *عن وجود الغيب في حركة الواقع ، و الفعل الإنساني .
مفتتح القصة :
تبدأ القصة بحوار بين موسى و فتاه : { و إذ قال موسى لِفَتَاهُ لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حُقُباَ } ...
( الكهف : الآية ٦٠ )
فتى موسى .. أين ذهب ؟ :
يُعِلمنا القرآن أن الفتى الذي كان بصحبةِ سيدنا موسى عليه السلام ( و يقال أسمه يوشع بن نون ، و الله أعلم ) ، يحمل له الطعام ( الحوت " السمك" ) يخدمه و يرافقه في رحلة البحث عن الرجل الصالح الذي خرج موسى يطلبه و ينظر ( العلامة ) الدالة على مكانه : { فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فتأخذ سبيله في البحر سربا ... } ( الكهف : الآيات ٦١ -- ٦٤ )
تلك كانت الإشارة التي ينتظرها موسى لتدله على مكان العبد الصالح : ( فوجدا عبداً من عبادنا )
( الكهف : الآية ٦٥ )
وجداهُ موسى و فتاه معاً ، ولكن بعدها ينقطع عنا خبر الفتى ، ليتحول الخبر إلى حوار ثنائي بين موسى و العبد الصالح في كل مراحل الرحلة و تجاربها الثلاثية ... حتى تنتهي .
ماهي صفات موسى ، و العبد الصالح ؟:
كان موسى في قومه ( قبل النبوة ) مؤمناً بالله ، يعلم أن الله خالق كل شئ ، فهو "موسى" أحد ورثة إيمان و فكر إبراهيم و إسحق و يعقوب ؛ قوي أمين ، يرى الأشياء بميزان الأسود و الأبيض ، دون تفكير و تأمل في بواطن الأشياء ( الغيب ) ، مع صفاء نفسه و نقاء ضميره .
ولما اصطفاه الله بكلماته ، أصبح نبياً من أولىِ العزم، قاد بني إسرائيل نحو خروجهم التاريخي . كان موسى يرى الأشياء في ظاهرها كغيره من جوهر العقائد و الرسالات السابقة ؛ فلم يكن موسى مختلفاً عن بيئته و ما كان له أن يكون .
كان لابد أن يأتي الدرس لموسى الذي يتلقى عن الله كلمات مباشرة ، دون وسيط ، ليتعلم الصلة بين حركة الظاهر ( الإنسان ) و عالم ( الغيب ) الذي يوجد فيه الله الذي طلب موسى أن يراه : { و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني }
( الأعراف : الآية ١٤٣ )
طلب رؤية الله كان أمراً طبيعياً لعقلية موسى الذي كان يرى الأشياء في ظاهرها دون التعمق في باطنها كغيره من جوهر العقائد و الرسالات السابقة له ، فقد سبقه إبراهيم عندما أراد أن يستيقن من كيفية الفعل الإلهي بالحياة و الموت ، فطلب من ربه أن يريه كيف يحي الموتي : { و أذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى }
( البقرة الآية ٢٦٠ )
لذلك أراد الله أن يتلقى موسى درساً يعلمه كيفية النظر في ( بواطن ) الأشياء وليس ظواهرها ، فقد تبدو الأشياء في ظاهرها على خلاف حقيقتها تماماً، كما سنرى في تجارب موسى مع العبد الصالح .
جاء الرد الإلهي على طلب الرؤية ( لن تراني ) ، أي أنك يا موسى ( أنت ) لن تراني ، لأن موسى لم يكن مهيأً و لا معداً لرؤية ربه ؛ و لم ينف الله إمكانية الرؤية ( مطلقاً ) لغير موسى ( عموماً) ، فلم يقل الله ( لن يراني أحد ) ، أو ( لن أُرىَ ) ، لذلك كانت رؤية الله متاحة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الله أعده و هيأه لرؤيته منذ حادثة شق الصدر و حتى الرسالة الكونية الجامعة للإنس و الجن و الحيوان و الجماد ، فعندما عرج إلى السماوات العلا بلغ مكاناً لم يبلغه نبياً مرسلاً و لا ملاكاً مقرباً فكان قاب قوسين أو أدنى من الذات العلية .. و شاهد ربه بالعينين .
بسم الله الرحمن الرحيم
مشاهد
محمد الطيب عابدين
*تأملات في قرآنية قصة موسى و الرجل الصالح*
""""""""""""""""""""""""""""""
قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح ( و يقال أنه سيدنا الخضر ، و الله أعلم ) ، من أحسن القصص القرآنية التي يرويها الله لرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قرآنه المنزل عليه ؛ لنتعلم منها إدراك *هيمنة الخالق القدير على كل شئ في عالم الحركة الفعلية في ظاهرها ( الطبيعي* ) ، و باطنها ( *الغيبي* ) .
*جدلية الغيب و الطبيعة و الإنسان*
"""""""""""""""""""""""""""
من تمام إيمان ( *الإنسان ) المسلم ، إيمانه ( بالغيب ) : { الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون*}
( البقرة : الآية ٣ )
إلا أن جدل ( *الطبيعة* ) بماديته المرتدة إلى منهجية البحث العلمي ( *عند البعض* ) ينكر جدل *الغيب* ، و يذهب بعيداً إلى إنكار وجود الله بحسبانه غيباً غير منظور ، ( في زعمهم المادي الإلحادي ) .
*إذن كيف يتحول الغيب إلى حقيقة واقعة في حياة الإنسان .. ؟* ؛ تلك هي *قصة موسى و العبد الصالح* ، التي إختار فيها الله جلت قدرته أن يكون نبيه موسى في تجربة محدودة ليكشف له و لنا *عن وجود الغيب في حركة الواقع ، و الفعل الإنساني* .
*مفتتح القصة* :
"""""""""""""""""""""""
تبدأ القصة بحوار بين موسى و فتاه : { *و إذ قال موسى لِفَتَاهُ لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حُقُباَ* } ...
( الكهف : الآية ٦٠ )
*فتى موسى .. أين ذهب ؟* :
"""""""""""""""""""""""""""
يُعِلمنا القرآن أن الفتى الذي كان بصحبةِ سيدنا موسى عليه السلام ( و يقال أسمه يوشع بن نون ، و الله أعلم ) ، يحمل له الطعام ( الحوت " السمك" ) يخدمه و يرافقه في رحلة البحث عن الرجل الصالح الذي خرج موسى يطلبه و ينظر ( *العلامة ) الدالة على مكانه : { فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فتأخذ سبيله في البحر سربا ...* } ( الكهف : الآيات ٦١ -- ٦٤ )
تلك كانت *الإشارة* التي ينتظرها موسى لتدله على *مكان العبد الصالح* : ( *فوجدا عبداً من عبادنا* )
( الكهف : الآية ٦٥ )
وجداهُ موسى و فتاه معاً ، ولكن بعدها ينقطع عنا خبر الفتى ، ليتحول الخبر إلى *حوار ثنائي بين موسى و العبد الصالح* في كل مراحل الرحلة و تجاربها الثلاثية ... حتى تنتهي .
*ماهي صفات موسى ، و العبد الصالح ؟*
"""""""""""""""""""""""""""""
كان موسى في قومه ( قبل النبوة ) مؤمناً بالله ، يعلم أن الله خالق كل شئ ، فهو "موسى" أحد ورثة إيمان و فكر إبراهيم و إسحق و يعقوب ؛ قوي أمين ، يرى الأشياء بميزان الأسود و الأبيض ، دون تفكير و تأمل في بواطن الأشياء ( *الغيب* ) ، مع صفاء نفسه و نقاء ضميره .
*ولما اصطفاه الله بكلماته ، أصبح نبياً من أولىِ العزم* ، قاد بني إسرائيل نحو خروجهم التاريخي . كان موسى يرى الأشياء في ظاهرها كغيره من جوهر العقائد و الرسالات السابقة ؛ فلم يكن موسى مختلفاً عن بيئته و ما كان له أن يكون .
كان لابد أن يأتي الدرس لموسى الذي يتلقى عن الله كلمات مباشرة ، دون وسيط ، ليتعلم الصلة بين حركة الظاهر ( *الإنسان* ) و عالم ( *الغيب* ) الذي يوجد فيه الله الذي طلب موسى أن يراه : { *و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني* }
( الأعراف : الآية ١٤٣ )
*طلب رؤية الله* كان أمراً طبيعياً لعقلية موسى الذي كان يرى الأشياء في ظاهرها دون التعمق في باطنها كغيره من جوهر العقائد و الرسالات السابقة له ، فقد سبقه إبراهيم عندما أراد أن يستيقن من كيفية الفعل الإلهي بالحياة و الموت ، فطلب من ربه أن يريه كيف يحي الموتي : { *و أذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى* }
( البقرة الآية ٢٦٠ )
لذلك أراد الله أن يتلقى موسى درساً يعلمه كيفية النظر في ( *بواطن* ) الأشياء وليس *ظواهرها* ، *فقد تبدو الأشياء في ظاهرها على خلاف حقيقتها تماماً*، كما سنرى في تجارب موسى مع العبد الصالح .
جاء الرد الإلهي على طلب الرؤية ( لن تراني* ) ، أي أنك يا موسى ( *أنت* ) لن تراني ، لأن موسى لم يكن مهيأً و لا معداً لرؤية ربه ؛ و لم ينف الله إمكانية الرؤية ( مطلقاً ) لغير موسى ( *عموماً* ) ، فلم يقل الله ( *لن يراني أحد* ) ، أو ( *لن أُرىَ* ) ، لذلك كانت رؤية الله متاحة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الله أعده و هيأه لرؤيته منذ حادثة شق الصدر و حتى الرسالة الكونية الجامعة للإنس و الجن و الحيوان و الجماد ، فعندما عرج إلى السماوات العلا بلغ مكاناً لم يبلغه نبياً مرسلاً و لا ملاكاً مقرباً فكان قاب قوسين أو أدنى من الذات العلية .. و شاهد ربه بالعينين .
تأملات في قرآنية قصة موسى و الرجل الصالح (٢):
قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح ( و يقال أنه سيدنا الخضر ، و الله أعلم ) ، من أحسن القصص القرآنية التي يرويها الله لرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قرآنه المنزل عليه ؛ لنتعلم منها إدراك *هيمنة الخالق القدير على كل شئ في عالم الحركة الفعلية في ظاهرها ( الطبيعي* ) ، و باطنها ( *الغيبي* ) .
*جدلية الغيب و الطبيعة و الإنسان*
"""""""""""""""""""""""""""
من تمام إيمان ( *الإنسان ) المسلم ، إيمانه ( بالغيب ) : { الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون*}
( البقرة : الآية ٣ )
إلا أن جدل ( *الطبيعة* ) بماديته المرتدة إلى منهجية البحث العلمي ( *عند البعض* ) ينكر جدل *الغيب* ، و يذهب بعيداً إلى إنكار وجود الله بحسبانه غيباً غير منظور ، ( في زعمهم المادي الإلحادي ) .
*إذن كيف يتحول الغيب إلى حقيقة واقعة في حياة الإنسان .. ؟* ؛ تلك هي *قصة موسى و العبد الصالح* ، التي إختار فيها الله جلت قدرته أن يكون نبيه موسى في تجربة محدودة ليكشف له و لنا *عن وجود الغيب في حركة الواقع ، و الفعل الإنساني* .
*مفتتح القصة* :
"""""""""""""""""""""""
تبدأ القصة بحوار بين موسى و فتاه : { *و إذ قال موسى لِفَتَاهُ لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حُقُباَ* } ...
( الكهف : الآية ٦٠ )
*فتى موسى .. أين ذهب ؟* :
"""""""""""""""""""""""""""
يُعِلمنا القرآن أن الفتى الذي كان بصحبةِ سيدنا موسى عليه السلام ( و يقال أسمه يوشع بن نون ، و الله أعلم ) ، يحمل له الطعام ( الحوت " السمك" ) يخدمه و يرافقه في رحلة البحث عن الرجل الصالح الذي خرج موسى يطلبه و ينظر ( *العلامة ) الدالة على مكانه : { فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فتأخذ سبيله في البحر سربا ...* } ( الكهف : الآيات ٦١ -- ٦٤ )
تلك كانت *الإشارة* التي ينتظرها موسى لتدله على *مكان العبد الصالح* : ( *فوجدا عبداً من عبادنا* )
( الكهف : الآية ٦٥ )
وجداهُ موسى و فتاه معاً ، ولكن بعدها ينقطع عنا خبر الفتى ، ليتحول الخبر إلى *حوار ثنائي بين موسى و العبد الصالح* في كل مراحل الرحلة و تجاربها الثلاثية ... حتى تنتهي .
*ماهي صفات موسى ، و العبد الصالح ؟*
"""""""""""""""""""""""""""""
كان موسى في قومه ( قبل النبوة ) مؤمناً بالله ، يعلم أن الله خالق كل شئ ، فهو "موسى" أحد ورثة إيمان و فكر إبراهيم و إسحق و يعقوب ؛ قوي أمين ، يرى الأشياء بميزان الأسود و الأبيض ، دون تفكير و تأمل في بواطن الأشياء ( *الغيب* ) ، مع صفاء نفسه و نقاء ضميره .
*ولما اصطفاه الله بكلماته ، أصبح نبياً من أولىِ العزم* ، قاد بني إسرائيل نحو خروجهم التاريخي . كان موسى يرى الأشياء في ظاهرها كغيره من جوهر العقائد و الرسالات السابقة ؛ فلم يكن موسى مختلفاً عن بيئته و ما كان له أن يكون .
كان لابد أن يأتي الدرس لموسى الذي يتلقى عن الله كلمات مباشرة ، دون وسيط ، ليتعلم الصلة بين حركة الظاهر ( *الإنسان* ) و عالم ( *الغيب* ) الذي يوجد فيه الله الذي طلب موسى أن يراه : { *و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني* }
( الأعراف : الآية ١٤٣ )
*طلب رؤية الله* كان أمراً طبيعياً لعقلية موسى الذي كان يرى الأشياء في ظاهرها دون التعمق في باطنها كغيره من جوهر العقائد و الرسالات السابقة له ، فقد سبقه إبراهيم عندما أراد أن يستيقن من كيفية الفعل الإلهي بالحياة و الموت ، فطلب من ربه أن يريه كيف يحي الموتي : { *و أذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى* }
( البقرة الآية ٢٦٠ )
لذلك أراد الله أن يتلقى موسى درساً يعلمه كيفية النظر في ( *بواطن* ) الأشياء وليس *ظواهرها* ، *فقد تبدو الأشياء في ظاهرها على خلاف حقيقتها تماماً*، كما سنرى في تجارب موسى مع العبد الصالح .
*جاء الرد الإلهي على طلب الرؤية ( لن تراني* ) ، أي أنك يا موسى ( *أنت* ) لن تراني ، لأن موسى لم يكن مهيأً و لا معداً لرؤية ربه ؛ و لم ينف الله إمكانية الرؤية ( مطلقاً ) لغير موسى ( *عموماً* ) ، فلم يقل الله ( *لن يراني أحد* ) ، أو ( *لن أُرىَ* ) ، لذلك كانت رؤية الله متاحة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الله أعده و هيأه لرؤيته منذ حادثة شق الصدر و حتى الرسالة الكونية الجامعة للإنس و الجن و الحيوان و الجماد ، فعندما عرج إلى السماوات العلا بلغ مكاناً لم يبلغه نبياً مرسلاً و لا ملاكاً مقرباً فكان قاب قوسين أو أدنى من الذات العلية .. و شاهد ربه بالعينين .
كما أن موسى طَلَبَ ( *الرؤية* ) فحُجِب عنها ، و نبينا محمد طُلِبَ ( *للرؤية* ) فمنحت له في رحلة الاسراء و المعراج ، بحكمة الله و إرادته .
و إذ كانت رحلة الإسراء والمعراج بالجسد و الروح و النفس المكرمات معاً ، و ليس بالروح فقط كما ذكر بعض العلماء ، و إستدلالنا على هذا الإستنباط قوله تعالى : ﴿ *سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ*﴾
[ الإسراء: الآية ١]
الذي أسرى ( *بعبده* ) محمد صلى الله عليه وسلم *زمنًا من الليل بجسده وروحه، يقظة لا منامًا، من المسجد الحرام بـ "مكة" إلى المسجد الأقصى بـ "بيت المقدس"* الذي بارك الله حوله في الزروع والثمار وغير ذلك، وجعله محلاً لكثير من الأنبياء؛ ليشاهد عجائب قدرة الله وأدلة وحدانيته . و كلمة ( *عبده* ) تفيد كمال الجسد و الروح و النفس ، حيث لم يأتي النص القرآني بقوله : ( *بروح عبده ، أو نفس عبده* ) لنعلم أن الإسراء والمعراج كان بدون جسده الشريف المبارك ، و بالروح فقط، و الروح من أمر الله: { *وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا* } .
( الإسراء : الآية 85 ).
*وظاهر الآية أن الإسراء كان في أول الليل وأنه من نفس المسجد الحرام، لكن ثبت في الصحيح أنه أسري به من بيت أم هانئ* "والله أعلم "، فعلى هذا تكون الفضيلة في المسجد الحرام لسائر الحرم كله .
كما أن ثبوت إستخدام ( *البراق* ) - وهو دابة فوق البغل و دون العير الوحشية ، يضع رجله في منتهى بصره - كوسيلة نقل ( *الإسراء* ) من مكة إلى القدس؛ يثبت أن الإسراء والمعراج كان بالجسد و الروح و النفس المباركات الشريفات ، و إلا *فما الداعي لإستخدام دابة البراق إذا كان الإسراء بالروح فقط* .
ثم عرج به من هناك إلى السماوات حتى وصل إلى ما فوق السماوات العلى ورأى الجنة والنار، والأنبياء على مراتبهم وفرض عليه الصلوات خمسين، ثم ما زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم حتى صارت خمسا. بالفعل، وخمسين بالأجر والثواب، وحاز من المفاخر تلك الليلة هو وأمته ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل .
و من عظمة الصلاة و شرفها ، أنه لم ينزل الوحي بأمرها من السماء إلى الأرض ، ولكن صعد لها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى و تلقاها من ربه مباشرة دون وسيط أو وحي عبر الروح القدس ؛ فهي الفريضة الوحيدة، و الركن الوحيد من أركان الإسلام الذي فرض في السماء من رب العالمين مباشرة .
*ماهي صفات الرجل الصالح ..؟*
"""""""""""""""""""""""""""""
العبد الصالح مُعلِم النبي موسى ، يخبرنا الله عن صفاته ، بأنه كان *يعبد الله ، موحداً* لا يشرك بعبادة ربه أحدا ، و هبه الله *الرحمة* ، فلم يكن قاسياً أو فظاً غليظ القلب ، و علمه ربه *علماً من لدنه* ، و ما أعظم العلم اللدني ، { *فوجدا عبدا من عبادنا أتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما* }
( الكهف : الآية ٦٥ )
*يقول الفيلسوف المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد*، في الجزء الأول من كتابه *العالمية الإسلامية الثانية ص ٣٨٨* : [[ كان على موسى أن يعبر بوعيه من ظاهر الحركة إلى خلفياتها، و من أشكالها الموضوعية إلى حقائقها . و لأن موسى كان ( محبوباً ) عند الله ، و كان نبياً قائداً مسؤولاً ، فقد آثره الله بهذا الدرس . و اختار له
"معلماً " ( ظاهراً ) ليجسد له فعل الله ( *واضحاً* ) في الحركة الموضعية المباشرة . و ليربطه بخلفياتها و أبعادها ، و من ثم يخلص به إلى *ما تعنيه إرادة الله و حكمة هذه الإرادة* . و يدله على ما تحمله الهيمنة المطلقة من *حقائق الرحمة ]]* حتى و ان بدت في أشد حالات القسوة و العنف .
*فارق العلم الموسوي ، و علم الرجل الصالح :*
""""""""""""""""""""""""""""""
بعد أن إشترط على موسى ( *الصبر ، و عدم السؤال* ) ، حتى يخبره ( *بحقيقة* ) ما يفعل من أمر قد يبدو له *أمرا ، و نكرا* ، { *قال فإن إتبعتني فلا تسئلني عن شئ حتى أُحدِثَ لك منه ذكرا* }
( الكهف : الآية ٧٠ )
والعبد الصالح يعلم مشقة الصبر على موسى فيما لا يَعلم خبره و حقيقته : { *و كيف تصبر على مالم تحط به خُبرا* }
( الكهف : الآية ٦٨ )
فالعلم الموسوي علم ( *خبري* ) ، أما علم الرجل الصالح فكان ( *علماً لدنياً* ) علمه له الله .
*أبعاد ( الغيب ) في الرحلة الموسوية ..*
""""""""""""""""""""""""""""
*ذهب* سيدنا موسى عليه السلام في رحلة مجهولة مع الرجل الصالح *ليُعلِمه مما عُلِم رُشدا* ، فكانت *الدروس الثلاثة* أن *خرق* العبد الصالح السفينة بمجرد أن ركبا فيها ، ثم *قتل* غلاماً صغيراً دون أدنى سبب ، و *أقام حائطاً* أوشك أن ينقض في قرية أبى أهلوها إطعامهما .
لم يستطع موسى الصبر على أفعال الرجل الصالح فأنكرها بشدة لأنه لم ينفذ بعلمه ( يومئذ ) *دور الغيب في الحركة الظاهرة للعبد الصالح الذي أتاه ربه ( الرحمة* ) ، و ( *العلم اللدني* ) .
*كيف يكون الخرق أماناً ، و القتل رحمةً، و البناء معروفاً لمن لا يستحق ( ظاهراً ) ..؟*:
""""""""""""""""""""""""""""""
أنكر موسى فعل العبد الصالح ، و عاتبه عليه في المرات الثلاث ( *الخرق ، القتل ، و بناء الجدار* ) ، صبر العبد الصالح على موسى ، ولكن موسى لم يطق صبراً على صبر الرجل الصالح ، فوضع التجربة الثالثة حداً فاصلاً بينهما .. وقد كان .
ربط موسى ، في حدود توقعاته الزمانية و المكانية و الذهنية ، بين الفعل و نتائجه الطبيعية المتوقعة ، فكان أن قيد *غرق السفينة بخرقِها* ، ولكن إرادة الله جعلت *الخرق أماناً للسفينة* من الملِك الذي يأخذ كل سفينة غصباً ، و كما أن *الغرق شرطاً لازماً للخرق* فإن القدرة الإلهية غير المرئية قد قضت بعدم ( *تفعيل* ) هذا التلازم الشرطي ، ولم تغرق السفينة المخروقة .
و في *التجربة الثانية استنكر موسى قتل الغلام ( البرئ ) بوصفه ( نفساً زكية* ) و ربط ذلك بقياس ( *بغير نفس* ) ، إلا أن الرجل الصالح *وقد أوتي الرحمة من ربه فلم يكن فعله يصدر بوعي عن نفسه ، و لكن عن الله الذي علمه علماً من لدنه ، فكان خبره لموسى أن الغلام ( ليس نفساً زكية*) كما يعتقد موسى ، بل ( *نفساً شريرة* ) يعلمها ربها ، وأن وجوده في الحياة سيكون ( *طغياناً و كفراً* ) ، مؤكداً أن *قاعدة* ( الصبي الحدث الذي لم يرتكب جرماً يبرر قتله ) ، *لا تعكس الحقيقة دوماً فهي مقياس موضعي بشري ، وليس مقياساً ربانياً يقرر أن قتل الغلام ( رحمة* ) بوالديه المؤمنين ، ليبدلهما الله ( *خيراً منه زكاة و أقرب رحماً* ) ، هذا درس لموسى ولنا في العناية الإلهية من طرف خفي ، و إن بدا الأمر على غير حقيقته .
أما *التجربة الثالثة و الآخيرة فقد كانت مع قوم بخلاء قساة القلوب ، لم يبادروا بإطعام الضيوف الغرباء ، بل حتى بعد أن طلبهم ( أستطعما أهلها* ) موسى و الرجل الصالح طعاماً ( *فأبوا أن يضيفوهما* ) ، رغم ذلك أقام لهم الرجل الصالح جداراً يوشك ان يسقط ، ولو سقط فلربما اصابهم بسؤ ؛ لم يشارك موسى في فعل الخير بإقامة الجدار لان العبد الصالح أقامة ( *وحده* ) لقول الله تعالى في الآية "٧٧" من سورة الكهف : { *فأقامه* } و لم يقل ( *فأقاماه*) معاً ، و إذا كان إحجام موسى عن إتيان الأفعال السالبة ( *في نظره* ) مبرراً من *خرقٍ و قتل* ، فما بال إمتناعه عن فعل الخير في بناء جدار كاد أن ينقض على أهل القرية ؟ ؛ *تأتي الإجابة أن موسى ربط بين فعل أهل القرية ( الذميم* ) برفضهم تقديم الطعام لهما ، و قدر أنهم لا يستحقون معروفاً دون أجر ، فقال : { *لو شِئت لتخذت عليهِ أجرا* } ؛ ولكن فِعل الرجل الصالح الذي لا يصدر عن علمه بل عن علم من الله ، و بعد إرادة الله التي قضت بإقامة الجدار الذي كان سينقض وقت وصولهما حتى لا ينكشف الكنز الذي من تحته فيتخطفه أهل القرية قساة القلوب و يضيع على أصحابه ورثة الحائط الغلامين اليتيمين ، تقديراً من الله لصلاح أبوهما و يقال أنه *جدهما* و الله أعلم .
*مماثلات التجارب الثلاث في حياة موس نفسه :*
""""""""""""""""""""""""""""""
و لعلني هنا انقل بتصرف و إختصار ما ذكره *الفيلسوف المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد* في ذات المرجع السابق بصفحات ٣٩٤ ، ٣٩٥ ، ٣٩٦ ؛ إذ يقول : (( *كانت التجربة الأولى تجربة السفينة ، فمن ورائها ملك يأخذ كل سفينة غصباً ، وهي تماثل تجربة حياة موسى في التابوت حين ألقته أمه في اليم و من ورائه فرعون آمراً بقتل كل طفل إسرائيلي . لم تغرق السفينة و هي تطفو بخرقها على سطح البحر ، كذلك لم يغرق التابوت و الموج يتقاذفه و بداخله رضيع لا يملك من أمره شيئاً* .
(( *و كانت التجربة الثانية قتل الغلام ( النفس الزكية ) فيما بدا لموسى بغير نفس ، وهي تماثل تجربة المرحلة الثانية من حياة موسى حين وكزه لأحدهم فقضى عليه . فموسى لم يقصد القتل ولا سعى إليه بوسائله المعروفة ، إذ أن الوكز هو ضرب من الدفع وليس أسلوباً للقتل ، ولكن خلافاً لذلك أفضت الوكزة إلى القتل ... لو راجع موسى هنا هذه الواقعة في تجربته مع العبد الصالح لاكتشف أن القتل كان مقدراً ، و إن الله قد أجراه بكيفية أدت إليه دون أن يكون موسى مسؤولاً مسؤولية ( حقيقية ) ، ولكن مجرد مسؤولية ( ظاهرية ) ، كذلك قتل العبد الصالح للغلام .*
*و كانت التجربة الثالثة في بناء الجدار مماثلة للمرحلة الثالثة من حياة موسى ، وهي مرحلة وروده ماء مدين . فهناك أولاً ( التوقيت ) فقد ورد موسى الماء ليجد في الحال بنتين تذودان . و في التحربة المقابلة يصل موسى و العبد الصالح ليجدا جداراً يريد أن ينقض ، فكما يعني تقدم أو تأخر موسى زمنياً في وروده الماء ألا يجد البنتين ، كذلك الأمر بالتسبة لوصولهما لحظة توقيت انقضاض الجدار على الأرض ، و هناك ثانياً ( البنتان ) وهما تقابلان ( اليتيمان ) وكلاهما في وضع الضعف ، و تستمر المقابلة بين ( أبونا شيخ كبير* ) و حالة الوفاة لدى اليتيمين ، وكلاهما صالح ، و أهل القرية قساة القلوب ( *فأبوا أن يضيفوهما* ) في مقابل الرعاة في مدين الذين بلغت قسوتهم ألا تستطيع البنتان معهم سقيا ... حتى تبلغ المقابلة حد العمل دون مقابل في مدين : ( *فسقى لهما ثم تولى إلى الظل* ) ، ليقابلها إقامة الرجل الصالح للجدار دون أجر ( *فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً* ) ... ))
*خلاصة التجارب الموسوية الثلاث :*
""""""""""""""""""""""""""
١ / كان العبد الصالح منتدباً من الله لتجسيد إرادته الغيبية في فعل البشر الملموس ، دون ( *حلولية* ) فيه بل هيمنة كاملة عليه .
٢ / لم يكن الفعل نفسه *خارقاً للعادة ( خرق السفينة ، قتل الغلام ، و بناء حائط ) ، و لكن نتائجه جاءت غير متلازمة مع مقدماته فأصبح الخرق أماناً من الغرق ، و أماناً للسفينة نفسها من الغصب ، كما كان قتل الغلام رحمة ، و إقامة الجدار معروفاً يحفظ كنزاً حتى يحين آوانه*، في قرية ظالمة .
٣ / أن الله يحتجب عن الفعل البشري وهو موجود فيه و قابض على نتائجه .
٤ / كانت الدروس لتنمية قدرات الفكر و التأمل ليكون لدى كل إنسان طريقته الخاصة ، و نهجه الخاص ( حكمته ) في فهم رؤية *فعل الله مجسداً في الحركة ، و فعل البشر بإرادته الإلهية و ليس بإرادتهم البشرية ، لنفهم حكمة الله في سياق الفعل أي لماذا قدر الله أن يأتي الأمر هكذا ؟ و ليس بصورة آخرى* . و أن *الأحداث في هذا الكون لا تأتي مصادفة بل محكومة في علاقاتها بناظم دقيق زماناً و مكاناً*.
٥ / لم تكن التجارب الموسوية قواعداً قياسية *مطلقة ، ولكن لنتعلم ، متى فهمنا الأمر عبر نموذج واحد* ، فيصبح بمقدورنا سحب النماذج على تعميم مبدئ مقترناً بشروطه .
٦ / *إن المفهوم الفوضوي للمصادفة أمر ينفيه القرآن نفياً باتاً ، فما من فعل إلا و كان ناظمه الزماني مقروناً لناظمه المكاني ، فلا مجال للصدفة العبثية في الكون ، كل شئ فيه خلق بمقدار و حكمة حتى و إن جهلنا مقداره و حكمته الإلهية : { وخلق كل شئ فقدره تقديرا* }
( الفرقان : الآية ٢ )
٧ / عَلِم موسى من العبد الصالح ببعض الذكر ( *الخبر*) في أمر التجارب ، أما الذكر كله ( *الخبر كله*) فقد *تنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم* لإختلاف في خصائص نبوته الكونية و تكوينه الذاتي عن موسى و تجاربه و نبوته لبني إسرائيل فقط دون العالمين .
٨ / على الإنسان أن *يلتزم بكلمة الله* ( أمره ، و نهيه ) مسلماً بحكمته ، لأن الله محيط بأبعاد الفعل الذي يطلبه من عبده بأكثر من إحاطة عبده به .
٩ / أراد الله لموسى أن *يربط بين الغيب و الواقع* ليصل من خلال وحدتهما إلى إستخلاص تجربته الوجودية ، و يتفهم طبيعة مساره في الحياة .
١٠ / من مظاهر إكرام المرأة في القرآن الكريم ، *وهي عديدة ، أن جعل لها نبياً يخدمها و يسقي لها الماء دون مقابل { فسقى لهما ثم تولى إلى الظل* } .
١١ / كانت تجربة موسى مختلفة تماماً ليس لعدم أهليتة للنبوة ، معاز الله ، كما قد يفهم البعض *و كأنه نقد جاهل لموسى* ، ولكن لأن موسى خلق على طبيعة قائد لشعب مضطهد و قائد مواجه لفرعون الذي إدعى الربوبية .
١٢ / لكل نبي خصائص معينة ، و كل رسالة تتميز بخصائص معينة في إطار النبوة العامة ، عدا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت رسالته كلية و تركييه الذاتي جامعاً .
١٣ / من تمام أيمان المسلم ، إيمانه بكل الرسل و عدم التفريق بينهم : *"آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"*
( البقرة : الآية ٢٨٥ )
تلك *بعض تأملات* في قصة سيدنا موسى عليه السلام ، نمُرُ عليها مراراً في القرآن الحكيم دون تفكر أو تدبر لحكمة الله في قدره المنظوم زماناً و مكاناً بدقة ربانية ، لا مجال فيها للصدفة و لا المصادفة العبثية .
● الإقتباسات من الجزء الأول لكتاب *العالمية الإسلامية الثانية* ( جدلية الغيب و الإنسان و الطبيعة) للفيلسوف السوداني *محمد أبو القاسم حاج حمد*، طبعة عام ١٩٩٦م عن دار ابن حَزم للطباعة و النشر و التوزيع ، بيروت ، لبنان .
مع تحياتي ،،،
*محمد الطيب عابدين*
كما أن موسى طَلَبَ ( *الرؤية* ) فحُجِب عنها ، و نبينا محمد طُلِبَ ( *للرؤية* ) فمنحت له في رحلة الاسراء و المعراج ، بحكمة الله و إرادته .
*ماهي صفات الرجل الصالح ..؟*
"""""""""""""""""""""""""""""
العبد الصالح مُعلِم النبي موسى ، يخبرنا الله عن صفاته ، بأنه كان *يعبد الله ، موحداً* لا يشرك بعبادة ربه أحدا ، و هبه الله *الرحمة* ، فلم يكن قاسياً أو فظاً غليظ القلب ، و علمه ربه *علماً من لدنه* ، و ما أعظم العلم اللدني ، { *فوجدا عبدا من عبادنا أتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما* }
( الكهف : الآية ٦٥ )
*يقول الفيلسوف المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد*، في الجزء الأول من كتابه *العالمية الإسلامية الثانية ص ٣٨٨* : [[ كان على موسى أن يعبر بوعيه من ظاهر الحركة إلى خلفياتها، و من أشكالها الموضوعية إلى حقائقها . و لأن موسى كان ( محبوباً ) عند الله ، و كان نبياً قائداً مسؤولاً ، فقد آثره الله بهذا الدرس . و اختار له
"معلماً " ( ظاهراً ) ليجسد له فعل الله ( *واضحاً* ) في الحركة الموضعية المباشرة . و ليربطه بخلفياتها و أبعادها ، و من ثم يخلص به إلى *ما تعنيه إرادة الله و حكمة هذه الإرادة* . و يدله على ما تحمله الهيمنة المطلقة من *حقائق الرحمة ]]* حتى و ان بدت في أشد حالات القسوة و العنف .
*فارق العلم الموسوي ، و علم الرجل الصالح :*
""""""""""""""""""""""""""""""
بعد أن إشترط على موسى ( *الصبر ، و عدم السؤال* ) ، حتى يخبره ( *بحقيقة* ) ما يفعل من أمر قد يبدو له *أمرا ، و نكرا* ، { *قال فإن إتبعتني فلا تسئلني عن شئ حتى أُحدِثَ لك منه ذكرا* }
( الكهف : الآية ٧٠ )
والعبد الصالح يعلم مشقة الصبر على موسى فيما لا يَعلم خبره و حقيقته : { *و كيف تصبر على مالم تحط به خُبرا* }
( الكهف : الآية ٦٨ )
فالعلم الموسوي علم ( *خبري* ) ، أما علم الرجل الصالح فكان ( *علماً لدنياً* ) علمه له الله .
*أبعاد ( الغيب ) في الرحلة الموسوية ..*
""""""""""""""""""""""""""""
*ذهب* سيدنا موسى عليه السلام في رحلة مجهولة مع الرجل الصالح *ليُعلِمه مما عُلِم رُشدا* ، فكانت *الدروس الثلاثة* أن *خرق* العبد الصالح السفينة بمجرد أن ركبا فيها ، ثم *قتل* غلاماً صغيراً دون أدنى سبب ، و *أقام حائطاً* أوشك أن ينقض في قرية أبى أهلوها إطعامهما .
لم يستطع موسى الصبر على أفعال الرجل الصالح فأنكرها بشدة لأنه لم ينفذ بعلمه ( يومئذ ) *دور الغيب في الحركة الظاهرة للعبد الصالح الذي أتاه ربه ( الرحمة* ) ، و ( *العلم اللدني* ) .
*كيف يكون الخرق أماناً ، و القتل رحمةً، و البناء معروفاً لمن لا يستحق ( ظاهراً ) ..؟*:
""""""""""""""""""""""""""""""
أنكر موسى فعل العبد الصالح ، و عاتبه عليه في المرات الثلاث ( *الخرق ، القتل ، و بناء الجدار* ) ، صبر العبد الصالح على موسى ، ولكن موسى لم يطق صبراً على صبر الرجل الصالح ، فوضع التجربة الثالثة حداً فاصلاً بينهما .. وقد كان .
ربط موسى ، في حدود توقعاته الزمانية و المكانية و الذهنية ، بين الفعل و نتائجه الطبيعية المتوقعة ، فكان أن قيد *غرق السفينة بخرقِها* ، ولكن إرادة الله جعلت *الخرق أماناً للسفينة* من الملِك الذي يأخذ كل سفينة غصباً ، و كما أن *الغرق شرطاً لازماً للخرق* فإن القدرة الإلهية غير المرئية قد قضت بعدم ( *تفعيل* ) هذا التلازم الشرطي ، ولم تغرق السفينة المخروقة .
و في *التجربة الثانية استنكر موسى قتل الغلام ( البرئ ) بوصفه ( نفساً زكية* ) و ربط ذلك بقياس ( *بغير نفس* ) ، إلا أن الرجل الصالح *وقد أوتي الرحمة من ربه فلم يكن فعله يصدر بوعي عن نفسه ، و لكن عن الله الذي علمه علماً من لدنه ، فكان خبره لموسى أن الغلام ( ليس نفساً زكية*) كما يعتقد موسى ، بل ( *نفساً شريرة* ) يعلمها ربها ، وأن وجوده في الحياة سيكون ( *طغياناً و كفراً* ) ، مؤكداً أن *قاعدة* ( الصبي الحدث الذي لم يرتكب جرماً يبرر قتله ) ، *لا تعكس الحقيقة دوماً فهي مقياس موضعي بشري ، وليس مقياساً ربانياً يقرر أن قتل الغلام ( رحمة* ) بوالديه المؤمنين ، ليبدلهما الله ( *خيراً منه زكاة و أقرب رحماً* ) ، هذا درس لموسى ولنا في العناية الإلهية من طرف خفي ، و إن بدا الأمر على غير حقيقته .
أما *التجربة الثالثة و الآخيرة فقد كانت مع قوم بخلاء قساة القلوب ، لم يبادروا بإطعام الضيوف الغرباء ، بل حتى بعد أن طلبهم ( أستطعما أهلها* ) موسى و الرجل الصالح طعاماً ( *فأبوا أن يضيفوهما* ) ، رغم ذلك أقام لهم الرجل الصالح جداراً يوشك ان يسقط ، ولو سقط فلربما اصابهم بسؤ ؛ لم يشارك موسى في فعل الخير بإقامة الجدار لان العبد الصالح أقامة ( *وحده* ) لقول الله تعالى في الآية "٧٧" من سورة الكهف : { *فأقامه* } و لم يقل ( *فأقاماه*) معاً ، و إذا كان إحجام موسى عن إتيان الأفعال السالبة ( *في نظره* ) مبرراً من *خرقٍ و قتل* ، فما بال إمتناعه عن فعل الخير في بناء جدار كاد أن ينقض على أهل القرية ؟ ؛ *تأتي الإجابة أن موسى ربط بين فعل أهل القرية ( الذميم* ) برفضهم تقديم الطعام لهما ، و قدر أنهم لا يستحقون معروفاً دون أجر ، فقال : { *لو شِئت لتخذت عليهِ أجرا* } ؛ ولكن فِعل الرجل الصالح الذي لا يصدر عن علمه بل عن علم من الله ، و بعد إرادة الله التي قضت بإقامة الجدار الذي كان سينقض وقت وصولهما حتى لا ينكشف الكنز الذي من تحته فيتخطفه أهل القرية قساة القلوب و يضيع على أصحابه ورثة الحائط الغلامين اليتيمين ، تقديراً من الله لصلاح أبوهما و يقال أنه *جدهما* و الله أعلم .
*مماثلات التجارب الثلاث في حياة موس نفسه :*
""""""""""""""""""""""""""""""
و لعلني هنا انقل بتصرف و إختصار ما ذكره *الفيلسوف المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد* في ذات المرجع السابق بصفحات ٣٩٤ ، ٣٩٥ ، ٣٩٦ ؛ إذ يقول : (( *كانت التجربة الأولى تجربة السفينة ، فمن ورائها ملك يأخذ كل سفينة غصباً ، وهي تماثل تجربة حياة موسى في التابوت حين ألقته أمه في اليم و من ورائه فرعون آمراً بقتل كل طفل إسرائيلي . لم تغرق السفينة و هي تطفو بخرقها على سطح البحر ، كذلك لم يغرق التابوت و الموج يتقاذفه و بداخله رضيع لا يملك من أمره شيئاً* .
(( *و كانت التجربة الثانية قتل الغلام ( النفس الزكية ) فيما بدا لموسى بغير نفس ، وهي تماثل تجربة المرحلة الثانية من حياة موسى حين وكزه لأحدهم فقضى عليه . فموسى لم يقصد القتل ولا سعى إليه بوسائله المعروفة ، إذ أن الوكز هو ضرب من الدفع وليس أسلوباً للقتل ، ولكن خلافاً لذلك أفضت الوكزة إلى القتل ... لو راجع موسى هنا هذه الواقعة في تجربته مع العبد الصالح لاكتشف أن القتل كان مقدراً ، و إن الله قد أجراه بكيفية أدت إليه دون أن يكون موسى مسؤولاً مسؤولية ( حقيقية ) ، ولكن مجرد مسؤولية ( ظاهرية ) ، كذلك قتل العبد الصالح للغلام .*
*و كانت التجربة الثالثة في بناء الجدار مماثلة للمرحلة الثالثة من حياة موسى ، وهي مرحلة وروده ماء مدين . فهناك أولاً ( التوقيت ) فقد ورد موسى الماء ليجد في الحال بنتين تذودان . و في التحربة المقابلة يصل موسى و العبد الصالح ليجدا جداراً يريد أن ينقض ، فكما يعني تقدم أو تأخر موسى زمنياً في وروده الماء ألا يجد البنتين ، كذلك الأمر بالتسبة لوصولهما لحظة توقيت انقضاض الجدار على الأرض ، و هناك ثانياً ( البنتان ) وهما تقابلان ( اليتيمان ) وكلاهما في وضع الضعف ، و تستمر المقابلة بين ( أبونا شيخ كبير* ) و حالة الوفاة لدى اليتيمين ، وكلاهما صالح ، و أهل القرية قساة القلوب ( *فأبوا أن يضيفوهما* ) في مقابل الرعاة في مدين الذين بلغت قسوتهم ألا تستطيع البنتان معهم سقيا ... حتى تبلغ المقابلة حد العمل دون مقابل في مدين : ( *فسقى لهما ثم تولى إلى الظل* ) ، ليقابلها إقامة الرجل الصالح للجدار دون أجر ( *فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً* ) ... ))
*خلاصة التجارب الموسوية الثلاث :*
""""""""""""""""""""""""""
١ / كان العبد الصالح منتدباً من الله لتجسيد إرادته الغيبية في فعل البشر الملموس ، دون ( حلولية ) فيه بل هيمنة كاملة عليه .
٢ / لم يكن الفعل نفسه *خارقاً للعادة ( خرق السفينة ، قتل الغلام ، و بناء حائط ) ، و لكن نتائجه جاءت غير متلازمة مع مقدماته فأصبح الخرق أماناً من الغرق ، و أماناً للسفينة نفسها من الغصب ، كما كان قتل الغلام رحمة ، و إقامة الجدار معروفاً يحفظ كنزاً حتى يحين آوانه*، في قرية ظالمة .
٣ / أن الله يحتجب عن الفعل البشري وهو موجود فيه و قابض على نتائجه .
٤ / كانت الدروس لتنمية قدرات الفكر و التأمل ليكون لدى كل إنسان طريقته الخاصة ، و نهجه الخاص ( حكمته ) في فهم رؤية *فعل الله مجسداً في الحركة ، و فعل البشر بإرادته الإلهية و ليس بإرادتهم البشرية ، لنفهم حكمة الله في سياق الفعل أي لماذا قدر الله أن يأتي الأمر هكذا ؟ و ليس بصورة آخرى* . و أن *الأحداث في هذا الكون لا تأتي مصادفة بل محكومة في علاقاتها بناظم دقيق زماناً و مكاناً*.
٥ / لم تكن التجارب الموسوية قواعداً قياسية *مطلقة ، ولكن لنتعلم ، متى فهمنا الأمر عبر نموذج واحد* ، فيصبح بمقدورنا سحب النماذج على تعميم مبدئ مقترناً بشروطه .
٦ / *إن المفهوم الفوضوي للمصادفة أمر ينفيه القرآن نفياً باتاً ، فما من فعل إلا و كان ناظمه الزماني مقروناً لناظمه المكاني ، فلا مجال للصدفة العبثية في الكون ، كل شئ فيه خلق بمقدار و حكمة حتى و إن جهلنا مقداره و حكمته الإلهية : { وخلق كل شئ فقدره تقديرا* }
( الفرقان : الآية ٢ )
٧ / عَلِم موسى من العبد الصالح ببعض الذكر ( *الخبر*) في أمر التجارب ، أما الذكر كله ( *الخبر كله*) فقد *تنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم* لإختلاف في خصائص نبوته الكونية و تكوينه الذاتي عن موسى و تجاربه و نبوته لبني إسرائيل فقط دون العالمين .
٨ / على الإنسان أن *يلتزم بكلمة الله* ( أمره ، و نهيه ) مسلماً بحكمته ، لأن الله محيط بأبعاد الفعل الذي يطلبه من عبده بأكثر من إحاطة عبده به .
٩ / أراد الله لموسى أن *يربط بين الغيب و الواقع* ليصل من خلال وحدتهما إلى إستخلاص تجربته الوجودية ، و يتفهم طبيعة مساره في الحياة .
١٠ / من مظاهر إكرام المرأة في القرآن الكريم ، *وهي عديدة ، أن جعل لها نبياً يخدمها و يسقي لها الماء دون مقابل { فسقى لهما ثم تولى إلى الظل* } .
١١ / كانت تجربة موسى مختلفة تماماً ليس لعدم أهليتة للنبوة ، معاز الله ، كما قد يفهم البعض *و كأنه نقد جاهل لموسى* ، ولكن لأن موسى خلق على طبيعة قائد لشعب مضطهد و قائد مواجه لفرعون الذي إدعى الربوبية .
١٢ / لكل نبي خصائص معينة ، و كل رسالة تتميز بخصائص معينة في إطار النبوة العامة ، عدا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت رسالته كلية و تركييه الذاتي جامعاً .
١٣ / من تمام أيمان المسلم ، إيمانه بكل الرسل و عدم التفريق بينهم : *"آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"*
( البقرة : الآية ٢٨٥ )
تلك *بعض تأملات* في قصة سيدنا موسى عليه السلام ، نمُرُ عليها مراراً في القرآن الحكيم دون تفكر أو تدبر لحكمة الله في قدره المنظوم زماناً و مكاناً بدقة ربانية ، لا مجال فيها للصدفة و لا المصادفة العبثية .
● الإقتباسات من الجزء الأول لكتاب *العالمية الإسلامية الثانية* ( جدلية الغيب و الإنسان و الطبيعة) للفيلسوف السوداني *محمد أبو القاسم حاج حمد*، طبعة عام ١٩٩٦م عن دار ابن حَزم للطباعة و النشر و التوزيع ، بيروت ، لبنان .
مع تحياتي ،،،
*محمد الطيب عابدين*
كما أن موسى طَلَبَ ( *الرؤية* ) فحُجِب عنها ، و نبينا محمد طُلِبَ ( *للرؤية* ) فمنحت له في رحلة الاسراء و المعراج ، بحكمة الله و إرادته .
*ماهي صفات الرجل الصالح ..؟*
"""""""""""""""""""""""""""""
العبد الصالح مُعلِم النبي موسى ، يخبرنا الله عن صفاته ، بأنه كان *يعبد الله ، موحداً* لا يشرك بعبادة ربه أحدا ، و هبه الله *الرحمة* ، فلم يكن قاسياً أو فظاً غليظ القلب ، و علمه ربه *علماً من لدنه* ، و ما أعظم العلم اللدني ، { *فوجدا عبدا من عبادنا أتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما* }
( الكهف : الآية ٦٥ )
*يقول الفيلسوف المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد*، في الجزء الأول من كتابه *العالمية الإسلامية الثانية ص ٣٨٨* : [[ كان على موسى أن يعبر بوعيه من ظاهر الحركة إلى خلفياتها، و من أشكالها الموضوعية إلى حقائقها . و لأن موسى كان ( محبوباً ) عند الله ، و كان نبياً قائداً مسؤولاً ، فقد آثره الله بهذا الدرس . و اختار له
"معلماً " ( ظاهراً ) ليجسد له فعل الله ( *واضحاً* ) في الحركة الموضعية المباشرة . و ليربطه بخلفياتها و أبعادها ، و من ثم يخلص به إلى *ما تعنيه إرادة الله و حكمة هذه الإرادة* . و يدله على ما تحمله الهيمنة المطلقة من *حقائق الرحمة ]]* حتى و ان بدت في أشد حالات القسوة و العنف .
*فارق العلم الموسوي ، و علم الرجل الصالح :*
""""""""""""""""""""""""""""""
بعد أن إشترط على موسى ( *الصبر ، و عدم السؤال* ) ، حتى يخبره ( *بحقيقة* ) ما يفعل من أمر قد يبدو له *أمرا ، و نكرا* ، { *قال فإن إتبعتني فلا تسئلني عن شئ حتى أُحدِثَ لك منه ذكرا* }
( الكهف : الآية ٧٠ )
والعبد الصالح يعلم مشقة الصبر على موسى فيما لا يَعلم خبره و حقيقته : { *و كيف تصبر على مالم تحط به خُبرا* }
( الكهف : الآية ٦٨ )
فالعلم الموسوي علم ( *خبري* ) ، أما علم الرجل الصالح فكان ( *علماً لدنياً* ) علمه له الله .
*أبعاد ( الغيب ) في الرحلة الموسوية ..*
""""""""""""""""""""""""""""
*ذهب* سيدنا موسى عليه السلام في رحلة مجهولة مع الرجل الصالح *ليُعلِمه مما عُلِم رُشدا* ، فكانت *الدروس الثلاثة* أن *خرق* العبد الصالح السفينة بمجرد أن ركبا فيها ، ثم *قتل* غلاماً صغيراً دون أدنى سبب ، و *أقام حائطاً* أوشك أن ينقض في قرية أبى أهلوها إطعامهما .
لم يستطع موسى الصبر على أفعال الرجل الصالح فأنكرها بشدة لأنه لم ينفذ بعلمه ( يومئذ ) *دور الغيب في الحركة الظاهرة للعبد الصالح الذي أتاه ربه ( الرحمة* ) ، و ( *العلم اللدني* ) .
*كيف يكون الخرق أماناً ، و القتل رحمةً، و البناء معروفاً لمن لا يستحق ( ظاهراً ) ..؟*:
""""""""""""""""""""""""""""""
أنكر موسى فعل العبد الصالح ، و عاتبه عليه في المرات الثلاث ( *الخرق ، القتل ، و بناء الجدار* ) ، صبر العبد الصالح على موسى ، ولكن موسى لم يطق صبراً على صبر الرجل الصالح ، فوضع التجربة الثالثة حداً فاصلاً بينهما .. وقد كان .
ربط موسى ، في حدود توقعاته الزمانية و المكانية و الذهنية ، بين الفعل و نتائجه الطبيعية المتوقعة ، فكان أن قيد *غرق السفينة بخرقِها* ، ولكن إرادة الله جعلت *الخرق أماناً للسفينة* من الملِك الذي يأخذ كل سفينة غصباً ، و كما أن *الغرق شرطاً لازماً للخرق* فإن القدرة الإلهية غير المرئية قد قضت بعدم ( *تفعيل* ) هذا التلازم الشرطي ، ولم تغرق السفينة المخروقة .
و في *التجربة الثانية استنكر موسى قتل الغلام ( البرئ ) بوصفه ( نفساً زكية* ) و ربط ذلك بقياس ( *بغير نفس* ) ، إلا أن الرجل الصالح *وقد أوتي الرحمة من ربه فلم يكن فعله يصدر بوعي عن نفسه ، و لكن عن الله الذي علمه علماً من لدنه ، فكان خبره لموسى أن الغلام ( ليس نفساً زكية*) كما يعتقد موسى ، بل ( *نفساً شريرة* ) يعلمها ربها ، وأن وجوده في الحياة سيكون ( *طغياناً و كفراً* ) ، مؤكداً أن *قاعدة* ( الصبي الحدث الذي لم يرتكب جرماً يبرر قتله ) ، *لا تعكس الحقيقة دوماً فهي مقياس موضعي بشري ، وليس مقياساً ربانياً يقرر أن قتل الغلام ( رحمة* ) بوالديه المؤمنين ، ليبدلهما الله ( *خيراً منه زكاة و أقرب رحماً* ) ، هذا درس لموسى ولنا في العناية الإلهية من طرف خفي ، و إن بدا الأمر على غير حقيقته .
أما *التجربة الثالثة و الآخيرة فقد كانت مع قوم بخلاء قساة القلوب ، لم يبادروا بإطعام الضيوف الغرباء ، بل حتى بعد أن طلبهم ( أستطعما أهلها* ) موسى و الرجل الصالح طعاماً ( *فأبوا أن يضيفوهما* ) ، رغم ذلك أقام لهم الرجل الصالح جداراً يوشك ان يسقط ، ولو سقط فلربما اصابهم بسؤ ؛ لم يشارك موسى في فعل الخير بإقامة الجدار لان العبد الصالح أقامة ( *وحده* ) لقول الله تعالى في الآية "٧٧" من سورة الكهف : { *فأقامه* } و لم يقل ( *فأقاماه*) معاً ، و إذا كان إحجام موسى عن إتيان الأفعال السالبة ( *في نظره* ) مبرراً من *خرقٍ و قتل* ، فما بال إمتناعه عن فعل الخير في بناء جدار كاد أن ينقض على أهل القرية ؟ ؛ *تأتي الإجابة أن موسى ربط بين فعل أهل القرية ( الذميم* ) برفضهم تقديم الطعام لهما ، و قدر أنهم لا يستحقون معروفاً دون أجر ، فقال : { *لو شِئت لتخذت عليهِ أجرا* } ؛ ولكن فِعل الرجل الصالح الذي لا يصدر عن علمه بل عن علم من الله ، و بعد إرادة الله التي قضت بإقامة الجدار الذي كان سينقض وقت وصولهما حتى لا ينكشف الكنز الذي من تحته فيتخطفه أهل القرية قساة القلوب و يضيع على أصحابه ورثة الحائط الغلامين اليتيمين ، تقديراً من الله لصلاح أبوهما و يقال أنه جدهما و الله أعلم .
*مماثلات التجارب الثلاث في حياة موس نفسه :*
""""""""""""""""""""""""""""""
و لعلني هنا انقل بتصرف و إختصار ما ذكره *الفيلسوف المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد* في ذات المرجع السابق بصفحات ٣٩٤ ، ٣٩٥ ، ٣٩٦ ؛ إذ يقول : (( *كانت التجربة الأولى تجربة السفينة ، فمن ورائها ملك يأخذ كل سفينة غصباً ، وهي تماثل تجربة حياة موسى في التابوت حين ألقته أمه في اليم و من ورائه فرعون آمراً بقتل كل طفل إسرائيلي . لم تغرق السفينة و هي تطفو بخرقها على سطح البحر ، كذلك لم يغرق التابوت و الموج يتقاذفه و بداخله رضيع لا يملك من أمره شيئاً* .
(( *و كانت التجربة الثانية قتل الغلام ( النفس الزكية ) فيما بدا لموسى بغير نفس ، وهي تماثل تجربة المرحلة الثانية من حياة موسى حين وكزه لأحدهم فقضى عليه . فموسى لم يقصد القتل ولا سعى إليه بوسائله المعروفة ، إذ أن الوكز هو ضرب من الدفع وليس أسلوباً للقتل ، ولكن خلافاً لذلك أفضت الوكزة إلى القتل ... لو راجع موسى هنا هذه الواقعة في تجربته مع العبد الصالح لاكتشف أن القتل كان مقدراً ، و إن الله قد أجراه بكيفية أدت إليه دون أن يكون موسى مسؤولاً مسؤولية ( حقيقية ) ، ولكن مجرد مسؤولية ( ظاهرية ) ، كذلك قتل العبد الصالح للغلام .*
*و كانت التجربة الثالثة في بناء الجدار مماثلة للمرحلة الثالثة من حياة موسى ، وهي مرحلة وروده ماء مدين . فهناك أولاً ( التوقيت ) فقد ورد موسى الماء ليجد في الحال بنتين تذودان . و في التحربة المقابلة يصل موسى و العبد الصالح ليجدا جداراً يريد أن ينقض ، فكما يعني تقدم أو تأخر موسى زمنياً في وروده الماء ألا يجد البنتين ، كذلك الأمر بالتسبة لوصولهما لحظة توقيت انقضاض الجدار على الأرض ، و هناك ثانياً ( البنتان ) وهما تقابلان ( اليتيمان ) وكلاهما في وضع الضعف ، و تستمر المقابلة بين ( أبونا شيخ كبير* ) و حالة الوفاة لدى اليتيمين ، وكلاهما صالح ، و أهل القرية قساة القلوب ( *فأبوا أن يضيفوهما* ) في مقابل الرعاة في مدين الذين بلغت قسوتهم ألا تستطيع البنتان معهم سقيا ... حتى تبلغ المقابلة حد العمل دون مقابل في مدين : ( *فسقى لهما ثم تولى إلى الظل* ) ، ليقابلها إقامة الرجل الصالح للجدار دون أجر ( *فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً* ) ... ))
*خلاصة التجارب الموسوية الثلاث :*
""""""""""""""""""""""""""
١ / كان العبد الصالح منتدباً من الله لتجسيد إرادته الغيبية في فعل البشر الملموس ، دون ( حلولية ) فيه بل هيمنة كاملة عليه .
٢ / لم يكن الفعل نفسه *خارقاً للعادة ( خرق السفينة ، قتل الغلام ، و بناء حائط ) ، و لكن نتائجه جاءت غير متلازمة مع مقدماته فأصبح الخرق أماناً من الغرق ، و أماناً للسفينة نفسها من الغصب ، كما كان قتل الغلام رحمة ، و إقامة الجدار معروفاً يحفظ كنزاً حتى يحين آوانه*، في قرية ظالمة .
٣ / أن الله يحتجب عن الفعل البشري وهو موجود فيه و قابض على نتائجه .
٤ / كانت الدروس لتنمية قدرات الفكر و التأمل ليكون لدى كل إنسان طريقته الخاصة ، و نهجه الخاص ( حكمته ) في فهم رؤية *فعل الله مجسداً في الحركة ، و فعل البشر بإرادته الإلهية و ليس بإرادتهم البشرية ، لنفهم حكمة الله في سياق الفعل أي لماذا قدر الله أن يأتي الأمر هكذا ؟ و ليس بصورة آخرى* . و أن *الأحداث في هذا الكون لا تأتي مصادفة بل محكومة في علاقاتها بناظم دقيق زماناً و مكاناً*.
٥ / لم تكن التجارب الموسوية قواعداً قياسية *مطلقة ، ولكن لنتعلم ، متى فهمنا الأمر عبر نموذج واحد* ، فيصبح بمقدورنا سحب النماذج على تعميم مبدئ مقترناً بشروطه .
٦ / *إن المفهوم الفوضوي للمصادفة أمر ينفيه القرآن نفياً باتاً ، فما من فعل إلا و كان ناظمه الزماني مقروناً لناظمه المكاني ، فلا مجال للصدفة العبثية في الكون ، كل شئ فيه خلق بمقدار و حكمة حتى و إن جهلنا مقداره و حكمته الإلهية : { وخلق كل شئ فقدره تقديرا* }
( الفرقان : الآية ٢ )
٧ / عَلِم موسى من العبد الصالح ببعض الذكر ( *الخبر*) في أمر التجارب ، أما الذكر كله ( *الخبر كله*) فقد *تنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم* لإختلاف في خصائص نبوته الكونية و تكوينه الذاتي عن موسى و تجاربه و نبوته لبني إسرائيل فقط دون العالمين .
٨ / على الإنسان أن *يلتزم بكلمة الله* ( أمره ، و نهيه ) مسلماً بحكمته ، لأن الله محيط بأبعاد الفعل الذي يطلبه من عبده بأكثر من إحاطة عبده به .
٩ / أراد الله لموسى أن *يربط بين الغيب و الواقع* ليصل من خلال وحدتهما إلى إستخلاص تجربته الوجودية ، و يتفهم طبيعة مساره في الحياة .
١٠ / من مظاهر إكرام المرأة في القرآن الكريم ، *وهي عديدة ، أن جعل لها نبياً يخدمها و يسقي لها الماء دون مقابل { فسقى لهما ثم تولى إلى الظل* } .
١١ / كانت تجربة موسى مختلفة تماماً ليس لعدم أهليتة للنبوة ، معاز الله ، كما قد يفهم البعض *و كأنه نقد جاهل لموسى* ، ولكن لأن موسى خلق على طبيعة قائد لشعب مضطهد و قائد مواجه لفرعون الذي إدعى الربوبية .
١٢ / لكل نبي خصائص معينة ، و كل رسالة تتميز بخصائص معينة في إطار النبوة العامة ، عدا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاءت رسالته كلية و تركييه الذاتي جامعاً .
١٣ / من تمام أيمان المسلم ، إيمانه بكل الرسل و عدم التفريق بينهم : *"آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"*
( البقرة : الآية ٢٨٥ )
تلك *بعض تأملات* في قصة سيدنا موسى عليه السلام ، نمُرُ عليها مراراً في القرآن الحكيم دون تفكر أو تدبر لحكمة الله في قدره المنظوم زماناً و مكاناً بدقة ربانية ، لا مجال فيها للصدفة و لا المصادفة العبثية .
● الإقتباسات من الجزء الأول لكتاب *العالمية الإسلامية الثانية* ( جدلية الغيب و الإنسان و الطبيعة) للفيلسوف السوداني *محمد أبو القاسم حاج حمد*، طبعة عام ١٩٩٦م عن دار ابن حَزم للطباعة و النشر و التوزيع ، بيروت ، لبنان .
مع تحياتي ،،،
*محمد الطيب عابدين*