بسم الله الرحمن الرحيم
مشاهد
محمد الطيب عابدين
الخبير و إستشاري القانوني
الخبير و إستشاري القانوني
ورقة نقدية حول رواية :
(( الهندي ... الطريق إلى الحبشة ))
للكاتب و الروائي الشاب/ محمد الأمين مصطفى
ما حفزني للكتابة عن هذه الرواية ، أولاً ، أسمها الملئ بالاستفهامات ، ما هو هذا الطريق ؟ .. من أين يبدأ ؟ .. كيف ينتهي ؟ .. ما هي صعوبات و مخاطر الطريق ؟ .. من هم رفاق الهندي في هذه الرحلة ؟ .. كم من الوقت إستغرقت الرحلة ؟ ... حزمة من التساؤلات يضعها العنوان أمام القارئ ، تجعله يركض ركضاً خلف الصفحات ليعرف الإجابة ، و كلما عَرِفَ إزداد شوقاً ليعرف أكثر . فيظل يلهث متابعاً أوراق الرواية ، يشد أنفاسه التشويق و الإثارة و المغامرة الجريئة التي تحفل بها الرواية .
ولعله من الروعة و حسن الاختيار تلك الصورة التي توافق عليها المصمم و الناشر دار الأجنحة و الكاتب ؛ صورة الشريف حسين الهندي مؤدياً القسم وزيراً ، و بالتأمل في الصورة مع معطيات لغة الجسد ، نلاحظ أن الهندي يرتدي بذة إفرنجية ( بدلة) كتلك التي يرتديها عامة الأفندية في ذلك الزمان ، ليست فاخرة مزخرفة بالحرير و الفضة ، ولا غالية الثمن مترفة .
يرمي الهندي ببصرة نحو القسم في هدؤ و سكينة ، لا تعتري قسماته علامات الزهو و الكِبر بالمنصب الوزاري الذي هو مقدمُُ عليه ، فقد عَلِم أن الوزارة إنما هي وسيلة لخدمة الناس و ليست غايةً للثراء و الوجاهة و التسلط على عباد الله ، كما جعلها آخرون في هذا الزمان .
ثم هو ، الهندي ، يبدو مسترخٍ الجسد ، لا توتر أو تشنج فيه ، سمته تعلوه الطمأنينة و الوقار ، فقد إتخذ لنفسه مبدأً في حياته لم يحد عنه حتى إنتقل إلى الحياة الآخرة ، هو قضاء حوائج الوطن و الناس ما إستطاع لذلك سبيلا ، حببه الله في الخير و حبب الخير إليه .
رواية الهندي ... الطريق إلى الحبشة، تحمل بين دفتيها خمس روايات في آن واحد ، و مكان واحد ، الأولى كونها رواية سردية عادية إلتزمت قواعد و ضوابط تقنيات السرد الروائي من حكاية و راوي عليم ، و حوار و وصف و غيرها من تقنيات السرد الروائي ؛ أما الثانية فهي كونها سيرة روائية ( غيرية ) يحكي فيها الكاتب بعضاً من سيرة حياة ( غيره ) ؛ و تلك الرواية الثالثة بإعتبارها رواية تاريخية قدمت لنا التاريخ في شكلٍ روائي ممتع ، بديلاً عن كراسة التاريخ الماضوي الممل ، التي لا يحبذها ، شيئاً ما ، شباب هذا الجيل ؛ أما الرابعة فكونها رواية سياسية أضاءت لنا جانباً من الحياة السياسية في تلك الحقبة من الزمان ؛ و الخامسة و الآخيرة كونها من أدب الرحلات ( رواية رحلة ) ، وثقت رحلة خروج الهندي من الخرطوم و إلى الحبشة . و الإنسان كائن راحل ، فإذا لم يجد إلى الرحيل سبيلا ، رحل بخياله .
تلك خمس مذاهب روائية تجمعت في رواية واحدة بمهارة و اتقان و حرفية مبدعة للكاتب .
و من فضائل هذه الرواية أنها أخرجتنا من دوائر الفشل التي توتدنا فيها طويلاً - إلا من رحم ربي - فقد فشلنا كسودانيين في تقديم عظمائنا و مبدعينا للعالم ، بما يليق بهم و بدورهم الأعظم الذي صنعوه بأيديهم . لم نتعرف على عبقري الرواية العربية الطيب صالح، إلا بعد أن كتب عنه أديب مصري - أظنه ولا أجزم - رجاء النقاش، ثم أعاد الكتابة في مجلة الدوحة القطرية زائعة الصيت آنذاك ، و لم نلتفت الى العالم الجليل البروفيسور عبد الله الطيب ، إلا بعد المجالس الحسنية التي كان يقيمها الملك الحسن ملك المغرب ، كانت تلك إلتفاتة حقيقة . لم نقدم للعالم سير روائية ( غيرية ) عن الأزهري ، و لا المحجوب ، ولا المهدي ، ولا حتى الترابي أو نقد ، إكتفينا بالتلقي عن الآخرين إبداعهم مثل فيلم ( عمر المختار) .. و غيره .. حتى جاءت هذه الرواية .
كما أنها ، أي الرواية ، قد أخرجت الإتحاديين من دائرة فشل عظمى قبَعوها فيها زماناً ، إذ فشلوا في تقديم رموزهم الوطنية الحزبية إلى الشعب السوداني و شبابه الحالي بما يليق بجهدهم و نضالهم و نضارة مواقفهم الوطنية ، بل هم - العظماء - من قدموا أنفسهم بأنفسهم في سجل التأريخ النضيد ، و كتبوا بايديهم مذكراتهم ليتركوا لنا إرثاً خالداً في صحاف تليدة ، فكانت مذكرات عبد الماجد ابو حسبو ، مذكرات خضر حمد ، مذكرات احمد محمد يسن ، مذكرات الشريف حسين الهندي ، و آخيراً مذكرات يحي الفضلي .
أما ثالث دوائر الفشل التي أخرجتنا منها رواية الهندي ... الطريق إلى الحبشة، فهو فشل من يدعون بأنهم أبناء الحسين و تلامذته الأبرار، فقد فشلوا جميعاً في تقديم كتاب واحد ، للأجيال الحاضرة او القادمة ، يحدث عن الهندي و يقدمه للشباب ، إحتفظوا بحكاياتهم و أسرارهم في صدورهم ، فمنهم من مات و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا . لقد ظل جيلاً كاملاً يظن أن رحلة خروج الهندي من إستراحة مشروع الجزيرة في صبيحة يوم ٥٢ مايو ١٩٦٩م ... حتى بلغ إستراحة الحكومة الحبشية في أصوصا ، لم تعدو كونها رحلة قصيرة في ايام معدودات أو بضع أسابيع ، حتى إنبرى الكاتب ليبين لنا أن الرحلة إستغرقت عدة أشهر ... أي فشل توحلنا فيه ردحاً من العمر ؟ .
ثم أن هذه الرواية قد سدت لنا فراغاً واسعاً في المكتبة الأدبية السودانية السياسية ، ففيما عدا ما كتب عن الزعيم البطل عبد الفضيل الماظ ، و معاوية محمد نور ، رائد الفكر و الثقافة السودانية ، لم تحظ المكتبة السودانية السياسية برواية سياسية مثل رواية الهندي ... الطريق إلى الحبشة كقائد سياسي وطني ، و حتى الذي كتب عن الهندي سابقاً لا يعدو كتاباً واحداً فقط قدمة الكاتب الكبير صديق البادي، و رزنامة مذكرات أعداها و قدمها الشريف محمد الأمين عمر الهندي ( أبو الحيران ) ، بعنوان مذكرات الشهيد الشريف حسين الهندي ( لوطني و للتاريخ ) ، عدا ذلك لم يكتب عنه كتاباً ، حتى جاءت هذه الرواية الحدث الأدبي الأبرز فى خواتيم عام ٢٠٢٢م لتسد هذا الفراغ الخجول .
عكست الرواية نشأة الشريف حسين الهندي العادية ، التي كان يتصورها البعض نشأة مترفة مدللة ، كونه سليل أسرة دينية وطنية كبرى ، و لأن الكاتب ينتمي إلى الأسرة نفسها فقد أفلح في رسم الصورة الحقيقة للحسين في مسيد والده مع الحيران ، و بين تلاميذ الخلوة ، يجلس معهم و ينام بينهم، و يعاقب مثلهم ، يلبس كما يلبسون ، و يطعم مما يطعمون لا يختلف عنهم في شئ غير الأسم فقط .
نجح الكاتب في تفريغ الأحداث التاريخية عبر تسلسل و مشاهد سينمائية جاذبة في قصة خروج الشريف حسين الهندي ، و هي قصة مليئة بالأحداث و المغامرات المشوقة ، مستخدماً تقنية الرجوع بالزمن ( الفلاش باك ) ، ولكل من يود تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي فهي جاهزة من حيث الترتيب السردي ، و المشاهد ، و الحوار ، وحتى الشخوص و المناطق و أسماء التضاريس الأرضية ؛ و بقليل من الجهد يمكن تحويلها إلى عمل سينمائي ناجح جداً .
هفوتان صغيرتان للكاتب ، أعزوهما للتوتر العاطفي للكاتب وهو يكتب عن شخصية بحجم جدة الشريف حسين الهندي ، و أيضاً لأستغراقه الشديد في أحداث الرواية ، أولاهما ما جاء في صفحة ١٢٠ { أخذ الشريف يفكر في كيفية تهيئة هذه المؤونة ومعها السلاح ... } ، و الصحيح { اخذ الزعيم يفكر ...} فقد كان الأمر يتعلق بخطاب مرسل من جبهة تحرير الجزائر إلى الزعيم الأزهري طلباً للمؤونة و السلاح ، تلك المهمة التي اختار الزعيم الازهري لإنجازها الشريف حسين الهندي .. وقد كان . و الهفوة الثانية ما ورد في الصفحة ١٦٤ { ... كان رجال الخليفة يفسحون الطريق لدخول سيارتهم ...} ، و الصحيح { ... كان رجال الإمام الهادي يفسحون الطريق لدخول سيارتهم ...}، أولاً الخليفة المقصود هو الخليفة مصطفى محمد أحمد طه جد الكاتب و قد كان راكباً في السيارة المفسح لها الطريق ، و ثانيا ً : لم يكن للخليفة مصطفى رجال يرابطون في جزيرة ابا يحرسون الطريق ، أولئك كانوا رجال الإمام الهادي طيب الله ثراه . و لبساطة الخطأ التحريري فإنك قد لا تفطن إليه إلا بتدقيق شديد و معرفة مسبقة بتفاصيل الرحلة ، لذلك لم يؤثر على قوة و جاذبية الرواية ، بل أنه حتى لو حذفت هذه الأسطر فإنها لن تنقص شيئاً من متانة لحمة الرواية و تماسكها السردي .
اختم بالحديث عن واحدة من أهم تقنيات السرد المستخدمة في الرواية بمهارة و دقة عالية تنبئ عن تمكن الكاتب من صنعته ؛ تلك هي تقنية التبئير الروائي ، و التبئير لغةً من بئر الشئ إذا جمعه و أحاط به حتى لا يتفلت ، و منها جاءت كلمة ( البئر ) لأن البئر يجمع الماء في قعره و يحيط به فلا يسيل خارجاً عن بئره ، فالبئر سمي بئراً لانه يبئر الماء ؛ و التبئير في الرواية هو الإحاطة و السيطرة على تفاصيل الرواية حتى لا تتفلت من الكاتب و يسهو عن ما كان يسرده قبلاً ، و في الرواية نجح الكاتب في تبئير روايته بشكل تام دون ان تتفلت منه تفاصيلها و هو يتنقل بين حاضرها الذي بدأه في عام ١٩٦٩م ، و ماضيها ( فلاش باك ) الذي بدأ من عام ١٩٣٠م بضاحية بري اللاماب ( بري الشريف ) ، و هو ممسك بزمام و رسن الرواية دون ان ينسى العودة إلي حيث كان يقف المشهد السابق ، مسيطراً على المشاهد زماناً و مكاناً سيطرة كاملة في حالة من التبئير الروائي الدقيق ، مع جودة اللغة ، و ذكاء الوصف و الحوار ، فحين يكتب الشريف عن الشريف ، ذاك امر شريف .
مع تحياتي ،،،
محمد الطيب عابدين
باحث ، كاتب ، و قاص