بسم الله الرحمن الرحيم
حافة الطريق - قصة قصيرة | مشاهد |
محمد الطيب عابدين
أقف على ضفة الشارع ، أترقب صديقي شاكر ، تأخر قليلاً عن موعده - وهو رجل ميفاء - أطالع المارة و السابلة على الطريق ، أتفرس بوجوههم ، أتأمل في حيوات الناس .
على الضفة الآخرى للطريق فتى في ميعة الصبا، يمشي بطريقة غريبة ، يقفز قفزاً ، يرمي بيديه بعيداً كأنه يود التخلص منهما .
قبالتي يدنو صبي يحاكي مشية الزنوج في أمريكا ، وهو لم يرها ، بنطاله يسيل عن مؤخرته حتى بانت ملابسه الداخلية ، خفت أن يسقط ذلك السروال على قارعة الطريق ، يمشي ولا يكترث لشئ البتة .
ما أن رددت بصري إلي ، إلا و أحسست بشاب يوشك أن يصطدم بي ، يمشي دافناً وجهه في شاشة هاتفه ( الغبي) ، لا يرى ، لا يسمع ، لا يتحدث ، فقط يحملق في هاتفه .. بالكاد دفعته بقوة حتى لا يسقطني أرضاً .. ترنح . أمسك نفسه .. نظر نحوي مندهشاً وهو يقول :
-- في شنو يا حاج ؟
-- أسأل نفسك .. كنت داير ترميني الواطة و انت ماشي مهود .. يا إبني عاين قدامك و انت ماشي .
-- لكن أنا ما هبشتك .. أرميك كيف ؟
-- و الله لو ما لزيتك كان دقشتني و سقطتني .. ياخي أنتو سقطوا عمر البشير خليك مني انا .
ضحك الشاب وهو يبتعد محملقاً في هاتفه *" السيار "* ...
على حافة الطريق تسير بمشيتها الرياضية السريعة ، تنتعل حذاءً خفيفاً شبه رجالي ، هذه الحسناء العيناء اللعساء تحادث نفسها ، تعبث بيدها في الهواء ، تلوح بسبابتها كأنها تحذر شخصاً أمامها ، هي تراه من حيث لا أراه أنا ، يا الله كم تأسيت لهذه الحسناء ، أختل عقلها و طفقت تحكي في قارعة الطريق ، تمشي جواري ، تكاد تلتصق بي و كأني غير موجود ، هي لا تراني ، شبح خفي انا ؟ ، أم سراب في نهار يوم قائظ ، تجاوزتني بخطوات و تركت لي عطرها الفواح يلسع حواسي ، يقشعر بدني ، يسخر من شيبتي و غروب شبابي ، غادرت خيالي الجموح بعد أن نزعت سماعة الهاتف عن آذنها و تركتها تغوص في صدرها الناهد . سكت ثغرها اليانع البليل ، و برفق شديد ضمت شفتيها العنبيتان .. و تركت وجيب صدري كأنه طبل داوٍ .
شيخ جليل يمشي منكفئً الوجهه صوب الأرض، كأنه يميل للسقوط ، يسير مترنحاً ( يترتح ) ، عاكفاً يديه خلف ظهره المحدودب ، كادت سيارة فارهه أن تنقله للعالم الآخر ، سحبته بقوة نحوي ، ضممته إلى صدري حتى لا يهوي على الأرض ، هواء السيارة الطائشة يلفح وجهي كأنه اعصار خاطف ، ازيز صوتها يثقُبُ آذني كأنها رصاصة مرت قرب خدي و انفجرت في الهواء ... تركني وهو يلهث ، يرتجف ، يحوقل ، يتمتم بالشهادة في صوت متحشرج خفيض ، أفلت من الموت و هو إليه ساع بظلفه .
مفتول العضلات ، حشر في صدره حشراً قميص قطني ( تي شيرت ) محزق جداً ، ( أحسست بصدري ينقبض ، و أنا أنظر إليه )، أكمامه قصيرة للغاية كأنها لطفل ، تورمت عضلات صدره و يديه كأنها مرسومة عليه بمخيال *الفنان العالمي محمد عمر خليل* ، يمشي متبختراً ، طاؤوس يغازل أنثاه ، تمس قدماه الأرض مساً خفيفاً كأنه متأفف من تراب الأرض و طينها الذي بدأ منه خلق الإنسان ، يشمخ بأنفه مختالاً فخورا ، لن يخرق الأرض ، و لن يبلغ الجبال طولا ، من أين جاء بهذه المشية المنكرة ، كيف تغيرت شناشن و أخلاق وحتى مشية اليفع من أبنائنا ... كيف نتدارك هذه التحولات المخيفة التي تغمر مجتمعنا و تكاد تغرقه ...
أفقت من شرود خيالي على صوت صبية يعبثون في حاوية القمامة من خلفي ، يضحكون ، يتقاسمون نفايات الطعام ، سعداء كأنهم يطعمون في أحد فنادق الطبقة المخملية . الفقراء المعدمون لا يتشاجرون على المال ، ولا الطعام ، كما يفعل الأثرياء المتخمون .
أهذا شارع بلدتي ؟ .. هل هؤلاء الناس أهلي و عشيرتي ؟ .. أين أنا .. ؟ ...
مع تحياتي ،،،
محمد الطيب عابدين
الخرطوم -- بري