قصة قصيرة
حكايات توتية
١
ظلام يتبدد أمامي في سكون . خيط ضؤ رقيق يتسرب إلى عينيي .
تختلط العتمة بأجنحة الضوء الراقصة . يطرد النور الظلام فأبصر لأول مرة في حياتي ، كم مضى من حياتي يا ترى ؟ ... كم لبث في عالمي هذا ، ...
بدأت عينايي تتبين ملامح المكان، ليس ضيقاً . أحس براحه و أنا أسبح حراً و ألعب كما أشاء . لا أحد يكدر حياتي أو يُضجِرني . هنا عالمي الخاص و مملكتي السعيدة . أنا الملك و كل الرعية، قائد الجيش و كل الجند ، السيد و كل الحاشية ... من أنا ؟
من البعيد، إلى آذنيي ينساب صوت عذب حنون؛ كأني من رؤى حالمة أستفيق . أكان حلماً ذاك الصوت الدافئ، أم حقيقة؟ .. في صحوٍ أنا أم في سبات عميق ؟ .. لا ادري . حواسي تتحرك كأنها زهرة تتفتق في الربيع . أعبث بقدميي سابح في فضاء متسع . هذا الأنبوب السحري يجلب لي سلاف المآكل والمشارب ، و رائحة تبهج نفسي كلما تفوحت حولي .
أحس بأمان و طمأنينة و سكينة و أنا في بيتي هذا ، لا أحد يتطفل علي حياتي أو يقتحمها . أنام وقت ما أشاء و أصحو على مهلي دون ضجيج أو عجيج .
صحوت علي صوت قوي جميل ، يحادثني من الخارج ، يداعبني ، يمسح بيده القوية برفق و حنو كأنه يعبث بشعر رأسي القليل المتناثر كعشب نابت للتو ، يضع آذنه كمن ينصت لضحكاتي، ويبتسم في حبور غامر ، شكله جميل ، لعله يشبهني شيئاً ما .. لا أظن انا أجمل منه ، و أجمل من أمي حبيبتي ؛ انا ملك هذه المملكة و كل الرعية .
٢
أفيق على جلبة و ضوضاء عالية من حولي ، أين هذا المكان ؟ .. في مساء أم ظهرٍ حللنا ؟ ،
ما كل هذه السيارات و السابلة على الطريق ؟ ، أمي تسير معي ، فأنا أحميها و أحبها ... إلى أين نذهب ؟ .
ندخل مكاناً نظيفاً أنيقاً . نجلس معاً في ردهة طويلة ينساب فيها هواء بارد ، من حولنا نساء منتفخات البطون يجلسن منفرجات الساقين في سكون . لمحات التعب مرسومة على وجوههن ، و أحداقهن المرهقة و أهدابهن الذابلة .
نَلِجُ غرفة زرقة لونها كالسماء الصافية ، في أخرها رجل يرتدي معطفاً أبيضاً طويلاً ، هل هو حكيم ( طبيب) أم أجزجي ( صيدلاني ) ؟ ، تستلقى أمي بصعوبة على أريكة عالية ليست ناعمة و لا قاسية ، يمسك صاحب المعطف الأبيض بيدها و يدخلها في قماشٍ أخضرٍ داكن مربوطاً بجهاز تتدلى منه بالونة شبه أسطوانية ، يبدأ بالضغط عليها فتنتفخ يد أمي و أحس بالدم قد توقف قليلاً عن المسيل ، ينزع القماش عن يدها .
يمسح سائلاً جلاتيني على بطن أمي المنتفخ العاري ، إذا أصابها بأذى أو آلم سوف أخرج و ألكمه على أنفه الكبير هذا . يٌحدثُ أمي :
-- لنرى هل هو ذكر أم أنثى .
يضع البروب على بطن أمي و يجول به باحثاً عني ، يا لك من شخص وقح غير مهذب ، لا تستأذن قبل الدخول علي في مملكتي ؛ أهكذا تعاملون الملوك في دياركم ، لن أمكنك من رؤية عورتي أبداً و لتذهب إلى الجحيم بنظارتك السميكة هذه .
بعد أن يئس من طول التجوال بالبروب في تضاريس بطن أمي ، و كاد السائل الجلاتيني ينشف ، طوى حبل الجهاز و أعاده حيث كان . جلس إلى طاولته المكتظة بالأشياء الغريبة، مثله ، ولما عادت أمي لتجلس أمامه على المقعد بادرها بقوله :
-- لم أستطع رؤية الجنين ، كلما حركت الجهاز يميناً جرى مني شمالاً ، أو مال على جنبه ، يبدو أن توتية مشاغبُُ جداً .
ضحكت أمي قائله :
-- و هل أسميته توتية ، أم تدلله بهذا الاسم .
دون أن ينظر إليها ، و هو يكتب في دفتره الأبيض المزين بإسمه ؛ قال :
-- توتية إسم الجنين في بطن أمه .
٣
أبي يداعب أمي و يمازحها ، يضع آذنه على بطن أمي ليسمع همسي إليه ، كم أحبه بشاربه الكث هذا ؛ يقبل بطن أمي و يحادثني بحب شديد ، أسمعه بفرح يهتز له قلبي الصغير . يبسم قائلاً :
-- أحقاً لم يستطع الطبيب رؤية طفلي العزيز، و معرفة نوعه ؟ .
-- هل تصدق ان طفلك كان يضع رجلاً فوق رجل ، ثم ينقلب على بطنه ، و جنبه ، كأنما يقصد فعلاً مشاغبة الطبيب و منعه من معرفة نوعه .
يضحك ابي بصوت عال و سرور غامر ، يمسح عينيه الدامعتين ؛ و فمه ملئ بالضحك ، يقول :
-- لعله ذكر يأبى أن ينظره أحد وهو عارٍ ، أو بنت جميلة تستحي النظر إليها ، لله دره من طفل ذكي نابه .
-- يا زوجي العزيز أي ذكاء تظنه لجنين مازال معلق بمشيمته و حبله السري .
-- لا أعلم ! ، ولكن أعجبني ما قاله الطبيب ، حتى وان كان تصرفاً عفوياً من طفلي .
( ٤ )
أفاقت أمي حين أفاقت ، باكراً ، وذهبنا نستحم معاً ، أنا العب داخل سائلي السحري الخفيف ، أدور على نفسي ، أركل الفراغ ، أتمطى و أسبح بقدميِ ، وحدي في مملكتي العظيمة ؛ لما فرغت أمي الحبيبة من الإستحمام ، و أدت صلاة الفجر، بدأت تحس آلماً في بطنها ، يتقلص البطن حيناً ثم يعود ، ينقبض في آلم حاد ثم يهدأ قليلاً ، بدأ سائلي العزيز يتسرب إلى أسفل في دفقات صغيره .
إنطلقنا عجلان إلى بناء كبير أبيض نظيف ، يسوقون أمي على سرير بدواليب صغيره مدوره، مسرعين إلى الداخل . ماذا يحدث ؟ .. ماذا هناك ؟ .. ليخبرني أحد بما يجري ..
ينقلب جسدي دون إرادتي ، رأسي يغوص إلى الأسفل ، رجلاي تنطبقان ببعضهما إلى الأعلى .
تتمدد أمي على ظهرها في غرفة سقفها مُضاءُُ بقناديل قوية ، هي تصرخ من الآلم ، ليتني أقدر أن أذهب عنكي هذا الآلم يا حبيبتي ، أيكون بسببي هذا الآلم و الصراخ ، ويح قلبي .. ماذا فعلت .. لا أعلم.البتة ، لم أفعل شيئاً .
يدخل بضعة رجال و نساء ملثمون بلباس أخضر قانٍ ، يرتدون قفازات طبية في أكفهم ، يحادث احدهم امي بصوت رقيق:
-- سنخرج الطفل الآن ، الوضع جاهز تماماً ، هل أنتي مستعدة .
تومئُ برأسها أمي دون ان تنطق بحرفٍ ، وجهها يرتجف ، يداها تسيلان عرقاً ، ساقاها تنتفضان بشدة كطير مذبوح ..
أتنبه أنا لما قال الرجل الملثم ؛ ماذا قلت .. تُخرج من؟ .. كيف تجرؤ على الحديث عني دون مشورتي و إذني ، ألا تدري من انا أيها المخبول ، انا ملك هذه المملكة وكل الرعية ، انا القائد وكل الجند ، لن اترك مملكتي لكم أيها الغاصبون المعتدون، سأقاتل لآخر جندي ، حتى يتثلم سيفي و ينكسر رمحي ، و تنفد سهامي و تفرغ كنانتي .. ثم لن أستسلم .
لا أرغب في الخروج إلى عالمكم الظالم الشرير المتسخ هذا ، أنتم تقتلون بعضكم ، تغتصبون الأطفال ، تسرقون ، و تكذبون طوال الوقت . عالمي نظيف جميل ، مدينتي فاضلة ، قريتي أمنة ، و شعبي ، مسالم أمين صادق . كيف تجبرونني على ترك الخير و الجمال و الفضيلة ، لأكون مثلكم .. لن اخرج .. لا أريد .. دعوني .. أتركوني وحدي ... لا .. لا .. وااااه .
مع تحياتي
محمد الطيب عابدين